أحياناً يجمح القلم بيد كاتبه كما يجمح الفرس بالفارس .. فيذهب بصاحبه إلى مكان لا يريده ولم يكن مخططاً له .. وهذا ما حدث معي اليوم .. فلا أعلم كيف ذهبت للكتابة عن موضوع كأنني قد أمرت بكتابته قصراً .. وذهبت إليه إجباراً .. سأكتب هذه المرة عن الحمير .. وما أدراك ما الحمير ..

هي حيوانات قد سخرت لنا .. وقد استخدمها الإنسان من قديم العصور .. تحمل الأشحمال .. وتنقل المسافر .. وتستخدم في مآرب كثيرة ..

أثنى الله تعالى عليها بأنها زينة يتفاخر بامتلاكها المالكون . (والخيل والبغال والحمير لتركبوها ..... وزينة)

كان الحمار قديماً مترعاً منعماً .. ولربما كان يأكل بثمن أبهض من ثمن أكل أهل مالكه .. فتجده سميناً نظيفاً .. قد وضع عليه سرجه وخرجه .. وله مكان مخصص يربط فيه ( مربط ) يعتبر ركيزة من ركائز البيت فلا يجرؤ أحد الاستيلاء عليه .. كما أنه له مأكل ومشرب ومرعى .. يتنعم فيها عيشاً مترفاً مبتذلاً .. حتى أن بعض الناس في ذلك الزمن تمنى لو أنه حمااااار ..

إلا أن بني آدم المتأخرين قد تنكروا للحمار فضله .. فعطلوه واستغنوا عنه.. ونسوا قدره .. وتجاهلوا مكانته .. فتجده هزيلاً منكسراً وحيداً .. قد أصيب بالتوحش لهول ما تغير من حاله وما آل إليه مصيره .. بسبب الاستغناء عنه ووجود البدائل من السيارات ووسائل النقل والتحميل الأخرى ..

فلم يكن الإنسان بالوفي بالمكافئ له على حسن خدمته .. وصبره وتحمله .. وقد عطر التأريخ سيرته .. بقصص قديمة ومواقف لا تنسى للحمار .. جهلته أكرم وأشهر من بعض البشر .. ولنأخذ مثلاً..

قصة الحمار الذي تشرف بالمبيت مئة عام مع نبي ..

قصة أتان ( أنثى الحمار ) حليمة السعدية رضي الله عنها .. عندما حملت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في المهد ..

يقول معاذ بن جبل كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير ، فقال : يا معاذ ، هل تدري حق الله على عباده ، وما حق العباد على الله .... الحديث

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار ، على إكاف عليه قطيفة فدكية ، وأردف أسامة وراءه .

رأى أنس بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار والقبلة خلفه وهو إلى خيبر

وما حمار ابن الخطاب من أمثلتنا ببعيد ..


وقد فاق الحمار كثير من الناس في بعض الصفات .. مثل الصبر والحلم والذكاء (نعم الذكاء!!) وحسن الرفقة والوفاء .. وفي حمل المشاق والتي يعجز عنها فراعنة الرجال .. وهو ساكت صابر مجاهد .. لا يتذمر ولا يبدي شكوى ولا انزعاج ..ولا امتعاض ولا اعتراض..

كما أنه حيوان نظامي .. إذا عوده صاحبه على نمط معين .. ورتم محدد .. فإنه يسير على هذا النظام دون بزوطة أو مخالفة أو تمرد .. كأن تعوده كل يوم أن تذهب به للسقاية ثم تحمل عليه علفاً ثم تذهب به للسوق وأخيراً تأخذه للمنزل .. خلال فترة وجيزة ستجده يعمل المطلوب دونما قائد أو دليل .. فهو يحترم نظام عمله ويعمل بإخلاص ..

وقد ذكر لي بعض كبار السن ممن عاصروا زمن الحمير .. أنهم كانوا يرسلون الحمار وحيداً للسير نهاراً كاملاً يعبر خلالها جبالاً وأودية .. ليوصل متاعاً أو ينقل بضاعة .. ثم يعود إلى قواعده سالماً ..

إذا ناديته يأتيك فوراً وإذا أمرته بالشرب يشرب حالاً .. وإن طردته من مكان ينصرف اللحظة .. فهو ذكي ملهم يفهم لغتنا ولكن للأسف نحن لم نفهم لغته إلى الآن ..

عندما يشرب الحمار فإنه يمز الماء مزاً .. أي لا يحدث صوتاً عند المشرب .. وقد سمعت غير مرة صوت كرع الماء في حلوق كثير من الرجال .. لذا الحمار أكثر لباقة (برستيجاً واتيكيتاً) من بعض الناس ..


وربما أن أغلب الناس فهم من قوله تعالى ( كمثل الحمار يحمل أسفارا) فهمها أنه دليل على غباء الحمار ..

والذي يتضح من الآية أن الحمار يحمل علماً فوق ظهره وما يعيبه أنه لا يحسن القراءة فقط .. ولو كان يقرأ ويكتب لفم تلك الأسفار التي تعلو ظهره .. بينما أن كثير من الناس تزخر مكتبته بآلاف الكتب وهو جاهل أحمق لا يعقل شيئاً .. ولا يهتدي سبيلاً ..

فدوماً .. نسمع بمن ينعت غيره ( يا حمار إفهم .. أنت حمار ولا إيش ؟؟؟ .. شوف الحمار الغبي ...الخ) جعلناه مسبة نتراشق ذكره بين الفينة والأخرى .. فأصبح وصف الحمار ينطبق على الغبي !!! إلا أن موضوعي أعلاه فيه من الدفاع عمن غلبته طيبته فلم يدافع عن نفسه ما يندد بتلكم الهجمة الظالمة المقصية لهذا المخلوق المسكين ..

دفاعي عن الحمير ليس من باب قول المطرب الخبل ( بحبك يا حمار) لذا سأكون أكثر واقعية فلن أنسى أو أتناسى قوله تعالى ( إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) حيث عاب الله صوت الحمار وكل صوت يشبه صوته .. وهذا على كل حال لا يضر ولا يوبق مكان الحمير ولا مكانته..


وسأضطر للقول بصراحة ..!!

عذراً يا حمار أفندي .. ما عرف الناس حقك .. وما أنصفوا عظيم صفاتك .. ولا كريم سجاياك .. أما وقد كرم الله بني آدم .. إلا أن أكثرهم والله أقل منك قدراً وأحط منزلة .. وأوضع شأناً ..
تحياتي